إرتباك – ريما خطيب

إرتباك
بدأت حكاية وجعها ذات مرض، عندما تمكنَّ العجزُ من جسد أُمها المقاتلة وأُرسِلَت روحها للأعلى... رحلة عذابها لم تكن طويلة كَطول صبرها... غليان واحد في ركوة مصيرها المُضرم ثم انتهى المسار الشاق سالبًا ايامها منها...

تُردد دائمًا انها بحاجة لمساحة تكون فيها بعيدة عني، تحاول جاهدة عدم الرد على اسئلتي التي تُجبرها على الإعتراف بحقيقة مشاعرها تجاهي، تتجاهل يديّ عندما تقترب معانقةً يديها، لكني وعلى الرغم من كل هذا ما زلت مؤمن بحبها غير المرئي لي.

انا اعرفها جيدًا واعلم كم قست الحياة عليها، وادرك انها الآن غير مستعدة لتقبُلي خشيةً من ان اكون مجرد الم اضافي هي الآن في غنى عنه.
احاول استيعابها لكني ومن جهةٍ اخرى اتساءل لِماذا يتوجب عليّ ان احتمل وادفع انا ثمن ما لاقته بأيامها الجافّة.
بدأت حكاية وجعها ذات مرض، عندما تمكنَّ العجزُ من جسد أُمها المقاتلة وأُرسِلَت روحها للأعلى… رحلة عذابها لم تكن طويلة كَطول صبرها… غليان واحد في ركوة مصيرها المُضرم ثم انتهى المسار الشاق سالبًا ايامها منها…

توقفت حينها بنظرِ الصغيرة ناي عقارب الساعة الوعثة عن التحرك للوصول لذات الإتجاه فأضحى نهارها كما ليلها – لا شيء جديد يحدث فيهما!
حاولتُ من قبل ان أجعلها تشعر بالقيمة الجوهرية للحياة… بأن هناك ما يُستحق ان يُعاش لأجله لكن خيوط الأمل الرفيعة التي شكلتها عزيمتها ضد معاركها فككها اليأس واحلل التشاؤم العُقد المتشابكة فيما بينها…

استعمر القلق اخيرًا جميع المناطق التي كنت الوذ اليها للتخلص من فكرة اني لن اقوى على تغيير تعكر مزاجها المتقلب… ولم اكن اسير إلا وبرفقتي علامات استفهام مُربكة واسئلة تطرق ناقوس جمجمتي، لا رد عندي أُلقي به عليها!

مضى اسبوعان او ربما شهران على اخر مرة رأيتها بها… بغِيابها لا أعد الأيام ولا اكترثُ للتاريخ… جُلّ ما كنت اريده لقاء حميم التف به حولها لتدثر كياني المرتعش بهمسِها الخفيف… اجابت لتُهدئ هيجاني على احد اتصالاتي المتكررة وتم تعيين الغد كفرصة لإرتشاف قطرات من السعادة، النشوة المُحببة والكثير من التناغم والأُلفة.

اردته غدًا مُلطخًا بالألوان… اصفر.. احمر او ازرق… أيًا كان… الأهم عندي ألا يرتدي لون الحداد ويُحول احتفالي برؤيتها الى جنازة ادفن بها جميع احاسيسي التي لم يكتب لها ان تُبان…
حلَّ اليوم المنتظر وهاج القدر بتلبية ما بغيت وكان لي ما اردت ان يكون…

اقتربت مني مرتديةً ثوبها الخمري القصير… بَدت كزجاجة نبيذ فاخرة وهي تُلوِن شفتيها بأحمر شفاه داكن يشابه لون ثوبها وتتمايل بلا اكتراث لحالِ قلبي الذي يصرخ طالِبًا مني ان احرره من قفصهِ الدنيئ… جلسنا وابتلعت ما استطعت من شرائح لهفتي المُتبلّة بمكعبات التوتر، كلامها كان قليلاً ولم أكد اذكر شيئًا لها إلا وكانت قد ربطته بذكرى أليمة… لدرجةِ انني شعرت بأن عليّ النهوض وعدم الاستمرار بالمحاولة حتى كَسَرَتْ رتابة الحديث وقالت بصوت هادئ وهي تفتح قفل هاتفها :

  • أتريدُ ان نستمع الى الموسيقى سويًا؟
  • الموسيقى ماتت منذ فترة طويلة.
    كان جوابًا قاسيًا وغير متوقع بالنسبة لفتاة ترى في النغمات والمعزوفات عالمًا آخر يُبقيها على قيد الحياة.
    لم تمضِ الا لحظات قليلة اساسًا حتى قالت :
  • هل تذكر المرة الأولى التي غَنيت بها معي؟
  • بالطبع!
  • وهل تذكر ماذا همستَ بأُذني بذلك الحين؟
  • بكل تأكيد
  • ما الذي تذكره؟
  • اذكر انني قلت انَّ ابتسامتكِ هي المقطوعة الموسيقية الوحيدة التي ستبقى خالدة…
  • اذًا لماذا كنت تتكلم قبل قليل وكأنه لا وجود حقيقي للموسيقى وترفض الاستماع؟!
  • لإني نسيتُ شكل ثُغركِ وهو يتسع وأضعتُ طريق الوصول لِصوتِ ضحكتكِ!!

خيَّمَ الصمت فجأة لكني لم أخفه فأنا اتفهم رغبتها بالسكوت وافهمها عَبرهُ ومعه واشعر احيانًا ان هنالك لغة مشتركة بيننا لا يستطيع احد استيعابها سوانا.
انتهى اللقاء لكن تفكيري بها لم ينتهِ منذ ان غادرتني… مضى الوقت مملاً ولاني لم ارغب ان ينتهي اليوم كما ابتدأ قررت الذهاب لزيارة اقاربي وكالعادة قاموا جميعًا بسرد قصص بطولاتهم بجذب النساء والتودد اليهن وبقيت واقفًا بلا اي ردة فعل ملحوظة حتى هتف شاب منهم بنبرة صوت مُلِحة: «ما وجه الاختلاف بينك وبين الكرسي الذي هناك؟ بدأت انطوائيتك تزعجني حقًا!»
فيجيبهُ الاخر قبل حتى ان ارد «لأن شخصًا مثقفًا يعشق الفلسفة مثله لم يسبق له ان شعر بالحب فِلماذا تريده ان يشاركنا الحديث!»
لم انبس ببنت شفة واحسست بالشفقة عليهم…

يظنُ هؤلاء ان هنالك علاقة طردية بين المعرفة والفهم ويجهل معظهم ان افكار كهذه ليست صحيحة بالغالب فَكل فرد منهم يعرفني… يعرف اسم والدي وتاريخ ميلادي وموقع منزلي لكن لا احد منهم قادر على فهم الطريقة التي ارى بها الامور واشعر بها بالاختلاف!
خرجت دون وداع وفِي طريق عودتي بدأت افكر الى اي حد وقفتُ عاجزًا حتى على الكلام…

اظن اني بدأت اكره تواجدي بعالم كهذا وانني قرأت الكثير ومررت بالكثير حتى ادركتُ جهلي، خيبتي، يَأسي… وحبي الذي عادةً ما يبدو شحيحًا امام تلك التي أُحِب ولم يعجبني اكتشافي ابدًا…
نمت الليل بطوله بلا حِراك وحَمدتُ الله صباحًا فقد نجحت بفضله تجنب سهر متعب كان سيجلب لي الأسى والذكريات الموجعة.
اتصلتُ بِناي عدة مرات ولم تُجِب وظننت انها في عملها وتمنيتُ لو لم يتم تصحيح ظني…

بجانب الشارع الذي يقود الى المكان الذي كنت اقصده وجدتها تتسكع مع صديقاتها وبيدها علبة حبوب كان قد نصحها الأخصائي بالابتعاد عنها.

  • اعطني ما بيدكِ حالاً! قلتُ وانا اشعر بأن الشرر يكاد يتطاير من عيناي.
  • ابتعد عني رجاءً وعد من حيث جئت
  • لن اترككِ لوحدكِ!!
  • لستُ وحيدة!! توقف عن جعلي اشعر بأني بحاجة لمساعدة
  • أما زلتِ تعتقدين انني اتعمد ايذائكِ؟!!
    أملتُ ان تقول لي « لا « او ان تقول « قِطعًا «، ان تحاول نفي كلامي لكنها اكدَّت مُخفِضةً رأسها الى الاسفل عكس ما كنت ارجو!
    وللمرةِ الألف… أَدُسُّ قلبي بين القش امامها وأُحيطُهُ بتمنياتي لتقوم بإمساك عيدان ثِقابها وحرقهُ امامي ببضعِ ثوانٍ دون ملاحظة اي من علامات الندم والتردد على معالمِ وجهها الكئيب…

لم تمضِ عدة ليالِ حتى قررت انّ عليّ ارجاعها الى صوابها لِتعيدني الى نِصابي الأوليِّ…
ركبت بأول سيارة اجرة وجدتها بجانب منزلي ووجهتُ عيناي الى الشباك كإشارة واضحة مني للسائق بإني لا ارغب بالحديث لكنّه اصرَّ على فتح مواضيع ليُصلِحَ حُفر الصمت اللاذع بيننا فقال بصوت خفيض مؤشرًا بيده على ثنائي لطيف كان على حافة الطريق « هل تعجبكَ طوابع العفوية الرومانسية تلك؟ «
لم يتوصل الى اجابة حاسمة يحملها معه فقد توجه بالسؤال لِإنسان لا يعي روعة الحب ولا يرتب مواعيده بدقة ولا يجيد التعبير عما بداخله… حتى افلام الدراما المنتشرة لم يواظب يومًا على ارهاف اذنيه لسماعها.

أخيرًا وصلتُ الوجهة المحددة، رأيتها من بعيد…
لم تكن غاضبة بل هادئة!
جلستُ بقربها، شَرَحت لي ما شعرت به بذلك اليوم و خلال الكلام قلت لها :

  • هل تفكرين بي حقًا كما افكر بكِ؟
  • ربما… تمتمت بهدوء.
  • ما احتمالية انشاء علاقة بيننا ابعدُ مدى مما عِشناه سويةً؟

رمقتني بنظرة لم اجد تفسير صريح لها وأعرضت عابسة بنظرها على الفور… أَوعَزَت اليَّ بمفهوم مفاده محو تساؤلاتي ووضعها بعيدًا عنها لأحمل امتعة اعتراضاتها الثقيلة معي وامضي ذليلاً كخادم طبقة نبلاء مُطيع تُبختِرُ الطاعة اعتراضاته!

إرتباك – ريما خطيب
إرتباك – ريما خطيب

ريما خطيب
0 0 votes
Article Rating
Subscribe
Notify of
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x
متجر أدونيس
Logo

المزيد من النتائج

Generic selectors
المطابقات التامة فقط
البحث في العنوان
البحث في المحتوى
Post Type Selectors
منتجات
مناسبات
مقالات
مبادرات
Skip to content
عربة التسوق