ليس كل ما تراه العين هي الحقيقة…. لربما خلف الأقنعة يوجد واقع مخفي لا يرى!
ما هو واقع المجتمع الذي يتفشى به الاجرام؟ وهل المجرم انسان بدائي ولد بغير زمانه؟ ام ان النظام الاجتماعي يدمر حياة الانسان وعلى الانسان العودة الى الطبيعة؟
ان الأجيال وهي تمضي تزداد سوءا. وسوف يأتي الزمان الذي تكون فيه قد ازدادت ضعفا الى حد ان تعبد القوة; وستكون القوة هي الحق عندها وسيزول عن الوجود اجلال الإرادة الطيبة، وفي النهاية عندما لا يوجد انسان غاضب من الأفعال الخاطئة او يشعر بالخجل بحضور البائس، فان زيوس سيقضي على الناس أيضا. ومع ذلك فانه حتى في ذلك الحين يمكن القيام بأمر ما، اذ لم يحدث الا ان يهب سواد الناس ويقضوا على الحكام الذين يظلمونهم[1].
لقد تحولت الجريمة الى افة متفشية في مجتمعاتنا، حتى كادت تصبح شيء عادي، الا اننا كما يقول ممدوح عدوان، لا نتعود الا إذا مات فينا شيء، فتصور حجم ما مات فينا حتى تعودنا على كل ما يجري حولنا. حتى ان تعبير “اخر زمن” أصبح على كل لسان، حيث أصبحنا لا نبالي من الأفعال الخطئة او نشعر بالخجل بحضور البائس.
مع هذا فانا أؤمن انه يجب عدم الانتظار الى حين يقضي فيه زيوس علينا، او تقوم الساعة. الامر الذي دفعني لدراسة العوامل التي قتلت فينا غريزة الحياة ونمت فينا غريزة التدمير. علنا نجد وسائل أخرى غير العقاب، لمحاولة منع وقوع الجريمة ابتداء ان أمكن، او التقليل قدر الإمكان من حدوثها.
لقد بدأت بحثي هذا في بحث العوامل الاجتماعية المؤدية الى تطوير شخصية إجرامية، لكوني طالبة علم اجتماع. الا انني خلال بحثي وقراءتي للكتب التي كتبت في موضوع العوامل المؤدية الى نمو غريزة التدمير في الانسان، وتطوير الشخصية الإجرامية، سرعان ما وجدت نفسي اوصل العوامل الاجتماعية بالعوامل النفسية، اذ تكمل واحدة الأخرى وفهمت انه لا يمكنني تجاهل العوامل النفسية الناتجة عن العوامل الاجتماعية. وبالتالي فسأبدأ المقال في تعريف الجريمة، من ثم سأذكر العوامل التي امن بها القدماء أي قبل عصر التنوير، وصولا الى العوامل النفسية الاجتماعية التي سأسلط عليها الضوء.
تعريف الجريمة
تعرف الجريمة بحسب علم الاجرام على انها واقعة او سلوك مخالف للقانون يستوجب عقاب فاعله.
كما انه يمكن القول في إطار علم الاجرام، ان الجريمة سلوك مضاد للمجتمع او انها سلوك يتعارض تعارضا قويا مع متطلبات الجماعة او مقتضياتها. وواضح ان هذا المفهوم يستند الى علم الاجتماع، وهو وغيره من المفاهيم الاجتماعية الأخرى للجريمة يمكن اعتباره تطويرا لمفهوم قديم، تبناه أحد اقطاب علم الاجرام وهو “جارفللو” وهو ان أساس القول بتجريم فعل ما من الناحية الاجتماعية، هو ان يتحقق به وصف الجريمة الطبيعية وهي تلك التي يتفق جميع المجتمعات الإنسانية في كل زمان ومكان على تجريمها، لأنها تتعارض مع قيم ورموز إنسانية أساسية كالشفقة والأمانة والعدالة.
كذلك يصح القول في علم الاجرام ان الجريمة تعبير عن اضطراب نفسي يحول دون التلاؤم مع المجتمع، او انها سلوك يشير الى عقلية إجرامية او على الأقل لا اجتماعية. وواضح ان هذا المفهوم يعتمد على البعد النفسي في علم الاجرام، وقد يمتاز على المفهوم الاجتماعي بانه يحاول البحث في سبب عدم التلاؤم مع المجتمع من جانب شخصي ونفسي، ومن هنا فانه قد يفتح المجال لاستظهار ما يمكن ان يسمى بإمارات الشخصية الا-اجتماعية، والكشف المسبق عن الأشخاص المهيئين للجريمة او الذين يمثلون خطورة اجتماعية في مفهوم القانون، وخطورة إجرامية في مفهوم علم الاجتماع.
كما انه بحسب علم الاجرام فان فكرة الجريمة لا تتغير في جوهرها بل تتغير صورها وتتعدد بحسب المصدر الذي وضع الأوامر والأنظمة.
اختلاف العوامل المؤدية للإجرام وتطورها عبر الزمن
اهتم رجال الفكر والعلم بمحاولة تفسير الجريمة منذ زمن بعيد الا ان هذا الاهتمام لم يأخذ الطابع العلمي الا منذ عهد قريب. فقد تميزت التفسيرات القديمة للسلوك الاجرامي بانها ذات طابع ميتافيزيقي- غيبي، فقد كان الاعتقاد السائد يقول بوجود قوى سحرية غيبية او أرواح شريرة تؤثر على الفرد وتجعله يسلك سلوكا اجراميا، وبالتالي فان هذه التفسيرات تميزت بالا-موضوعية والبعد عن الأسلوب العلمي.
كما كان بعض القدامى يعتقدون أيضا ان الجريمة قدر محتوم من قبل الالهة، لذا فلا يجب ان نبحث عن أسبابها في الفرد او المجتمع، وهي تعبر عن غضب الالهة.
بالإضافة الى ذلك، فقد ذكر بعض الفلاسفة ان الجريمة تنشا عن اهمال التربية والتهذيب الروحي. ومن أقدم النظريات الفلسفية في تفسير الجريمة، قول سقراط، بان السلوك الاجرامي والجريمة يرجعان الى الجهل، وان السلوك السوي والفضيلة يرجعان الى العلم. كما قال افلاطون في كتابه (القوانين)، ان سبب الجريمة طبيعي في الفرد، ويساعد عليه شيطان يحمله الانسان معه أينما سار. في حين يرى ارسطو ان السبب وراء السلوك الاجرامي ليس غيبيا، ولكنه يرجع الى الجشع والحسد وحب الثروة والطموح.
وترجع الدراسة المنظمة لأسباب الجريمة والسلوك الاجرامي الى قرنين فقط من الزمان. حيث انه مع بداية العصر الحديث، بدأت مجموعة من الدراسات المتعلقة بالبحث في أسباب الجريمة في الظهور، ولكن هذه الدراسات افتقدت الى الطابع العلمي. ولم يأخذ البحث في أسباب الجريمة الطابع العلمي الا بعد الثورة العلمية التي ظهرت في العلوم الاجتماعية، والتي كانت تابعة للثورة العلمية في مجال العلوم الطبيعية، وقد تعددت الدراسات بتعدد اتجاهات تحديد عوامل وأسباب هذا السلوك.
فمثلا هناك بعض الدراسات الإحصائية غير الدقيقة التي تشير الى علاقة السلالة بالإجرام.
حيث تعتمد احدى الدراسات على مقارنة دولة معينة بدول أخرى. هذه الدراسة غير دقيقة، لأنها قد لا تسفر عن نتائج دقيقة ومعبرة عن الواقع، فمفهوم الجرائم تختلف من دولة الى أخرى. كما انها غير دقيقة لأنها عبارة عن عقد مقارنات بين الشعوب كل منها في دولة مختلفة وتخضع لتأثير البيئة.
اما دراسة اخرى فتعتمد على المقارنة بين السلالات المتعددة التي تقيم في دولة واحدة. والولايات المتحدة تشكل ميادين خصبة لهذا النوع من الدراسات، الا انها غير دقيقة، فالمجتمع الأمريكي متحيز ضد الزنوج فغالبية البيض يميلون الى اتهام الزنوج في ارتكاب الجرائم، كما ان الزنوج يشكلون اقلية في أمريكا لذا فهم يشعرون بالظلم.
كما انه بحسب لومبروزو, مؤسس المدرسة الوضعية الإيطالية والذي قد تبنى الاتجاه الانثروبولوجي, يتبين من الأبحاث التي قد عقدها بحكم عمله أستاذا للطب الشرعي والعصبي, وطبيبا في الجيش الإيطالي, والتي اعتمد فيها على عدة مئات من جثث المجرمين المتوفين وعدة الاف من المجرمين الاحياء, فان هناك صفات معينة يتميز بها المجرم عمن سواه ويحملها منذ اللحظة الأولى لميلاده, فهي اذا صفات تكوينية طبيعية, وهي تماثل صفات الانسان البدائي الأول الذي يحمل صفات شبيهة بصفات بعض الحيوانات المعاصرة كالقردة.
بل قد نسب الى لومبروزو قوله، ان هذا المجرم بطبيعته قد ولد بغير زمنه وانه ينتمي الى الانسان الأول البدائي، أي انه يتميز بما يسمى “الارتداد الوراثي”.
بالإضافة الى الصفات العضوية التي قد أوردها لومبروزو للإنسان المجرم، كتميز المجرم بذراعين طويلين، وأصبع زائد في احدى اليدين او القدمين. لقد أورد لومبروزو صفات فيسيولوجية، أي صفات تتعلق بوظائف الأعضاء أيضا، مثل ضعف حواس السمع والشم التذوق، فضلا عن ضعف الإحساس بالألم والحرارة والبرودة. وثمة صفات أخرى، نفسية، سجلها لومبروزو للإنسان المجرم، كحدة المزاج وعنفه، وقسوة النظرات، وقسوة الشعور، وانعدام الحس الأخلاقي، والابتسامة المصطنعة، فضلا عن الكسل والانانية والايمان بالخرافات.
بعد ان بات واضحا ان الأسباب المطروحة في هذا الفصل هي ابسط من ان تفسر سيكولوجية الانسان المجرم، اعتقد ان معرفة تأثير أحد جوانب الانسان، أعنى الجانب النفسي- اجتماعي على تنمية غريزة التدمير فيه، تثير الفضول. وهذا ما سأتطرق اليه في الفصل القادم من المقال.
كيف يؤثر المبنى الاجتماعي على تنمية غريزة التدمير وتطوير شخصية إجرامية في الانسان؟
نحن نولد أحرارا لكن القيود تحيطنا من كل مكان[2]. لقد امن روسو بان المؤسسات الحكومية تدمر حياة الانسان، وانه يجب على الانسان العودة الى العيش في الطبيعة. كما انه امن بان المجتمع والملكية الخاصة من أسباب الظلم الاجتماعي وعدم المساواة وبانه من أبرز أسباب شيوع الفساد في الافراد وميلهم الى التصرف بعدوانية وانانية.
لكن قبل ان ادحض او ابرهن قول روسو، سأبدأ بذكر بعض النقاط التي يجب على القارئ فهمها:
فأولا، يواجه الانسان منذ طفولته ظروف حياتية مختلفة، ويتعلم كيف يتأقلم معها بمساعدة عائلته، وهكذا تأخذ شخصية الانسان معالمها المختلفة التي تميزه عن غيره. كالحب، التدميرية، النزوع للخضوع، الشهوة للقوة، الرغبة في العظمة الذاتية، الهوى في الانجراف مع الحياة، والخوف. الا انه يصعب بعد تطور معالم الشخصية هذه ان تختفي او تتغير لدافع اخر.
كما ان الانسان بعكس الحيوان، الذي تبدأ تصرفاته من باعث قبل الجوع وتنتهي بسلسلة لا تنقطع من ردود الافعال او بسير للفعل محدد بصرامة، وهو فعل يطيح بالتوتر الذي يخلقه الباعث. فان هذه السلسلة تنقطع عند الانسان، فبالرغم من وجود الباعث، الا ان نوع الاشباع “مفتوح”, أي ان الفرصة متاحة امام الانسان للاختيار بين سيرورات مختلفة للفعل، فبدلا من فعل غريزي محدد من قبل, على الانسان ان يزن السيرورات الممكنة للفعل في عقله.
بناء على ذلك، سأحاول فيما يلي ان أوجه أصبعي نحو الظروف المعيشية التي يمر بها الانسان المقهور، كما يسميه دكتور مصطفى حجازي. كما سأحاول تفسير معالم الشخصية التي تتطور نتيجة لهذه الظروف المعيشية.
ان الانسان المقهور يخاف في المقام الأول من الطبيعة. حيث انه يواجه منذ طفولته معتقدات متخلفة ترسخها عائلته فيه، كعدم المقدرة على تقرير المصير، فان سيكولوجية الانسان المقهور هي سيكولوجية الانسان المتخلف[3].
بالإضافة الى ذلك، فان إدراك الانسان المقهور بالموت، المرض، والشيخوخة، تشعره بالضرورة بتفاهته وضالته بالمقارنة مع الطبيعة.
ثانيا، ان الانسان المقهور يخاف من استبداد الحاكم. حيث ان القائد في العالم المتخلف يشعر بانه غير مؤهل بدوره او ان الاخرين مؤهلين أكثر منه ومن ثم فالضحية يمثل تهديدا، بينما قد يكون الضحية غافلا تماما عن الامر، وبالتالي فان الحاكم في العالم المتخلف يستبد ويشكل دكتاتورا حتى يكون الحاكم الامر والناهي.
وأخيرا، فان شعور الانسان المقهور بعجزه وعدم معناه كفرد، يجعله يتبنى انتماءات مختلفة والفخر بها، كانتمائه لعائلة معينة مثلا، مما ينمي عزلته عن الأشخاص أصحاب الانتماءات الاخرى والقلق منهم وفي النهاية تحويلهم الى اعداءه.
وبناء على ذلك، تظهر في المجتمعات المتخلفة، علاقة سادية-مازوشية. حيث ان الانسان المقهور، الضعيف، يتماهى مع شخصية المتسلط ويمارس بطشه على أبناء مجتمعه الأضعف منه، وهكذا فهو يتخلص من خوفه، ويبقى الحاكم في مأمن فالإنسان المقهور منشغل عنه في مواجهة أبناء مجتمعه. وبالتالي تتكون لدينا سلسلة من مسيطر، ومسيطر عليه، ويسود قانون الغاب بين البشر.
[1] اسطورة يونانية في العصر الحديدي
[2] جان جاك روسو
[3] دكتور. مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي، مدخل الى سيكولوجية الانسان المقهور
بقلم: #سيلين_خليل