زلةُ قَدر – ريما خطيب

Loading

زلةُ قَدر
زلةُ قَدر – ريما خطيب

امامي مجددًا ، ذات الفتاة التي اهوى ، تقترب مني وتُخبئ بداخل أعينها حيرةً يصعُب عليّ فهم سببها!
تُوقعني احيانًا بشِباك حُبها وأحيانا اخرى تجعلني ابغضُ النظر اليها لأتجنب الوقوع في فخِ اشتهاءِ ما لا املك !
لم تكن المرة الأولى لنا ، التقيتُ العديد من المرات وايّاها من قبل لكن لم يبدي اي طرف منّا اي اهتمام ملحوظ …
المختلف بهذا اللقاء كان إبدائي لحركاتٍ لم تكن يومًا مألوفةً بالنسبة لها ، ضممتها اليّ وتعطرتُ بشذاها …
انا الذي قدمتُ برائحة واحدة وبضعُ اثار سأعود مُحملاً برائحتين او على وجه الدقة بنكهتين ! تمنيتُ سرًا ان تهمس بأذني بخضوعٍ تام كلمة ” احُبك ” او ان تُجزأها لي على النحو الذي أُحب لكن ايًا من هذا حصل !
كان الصمتُ خاطر اللحظة واستولت سيادَتَه على المكان دقائق طويلة .
حاولت كسر حواجزه لكن سرعان ما اصدر هاتفها بضع نغمات لترد عليه بلهفةِ مُحب تاركةً ايايّ وحدي مجددًا مُتسمرًا بذات البقعة .
لستُ ادرك حتى اليوم ما كان سرها وما الذي تخبئه بثنايا فِكرها ولم يتمكن الوقت من مساعدتي في إظهار حقيقتها ونزع أقنعتها المزيفة ليظهر وجهها الأولي .
ما زالت تدعي انها تُحبني رغم انها لم تنطق ذلك قط إلا انها صرّحت عدة مراتٍ من قبل بأنها تستلطفُ تواجدي بقربها .
لا أُكذبها لكنّي لها غير مُصدقٍ ، ما زلت مُرتابًا من فكرةِ وجودِ احدٍ ما غيري معها …
اخافُ إن بُحت بمشاعري أَلا القاها الى جانبي واهابُ ترنحَ الخوف صوبي وهي ليست لي اساسًا !
فتاة بمثلِ عظمتها ما الذي سيُغريها بي وما الشيء الذي سيجذبها بشبه رجلٍ مثلي يرتبكُ دومًا ويتلعثم عند اول حديث ؟!
كنتُ قد عبرتُ الرصيف بأكمله حاملاً معي الرغبة في معرفة اجابات الاسئلةِ ذاتها ، اردتُ أن أُرتب كلماتي أمامها بلا تردد، أن أُرتب نقاط قوتي الباطنة في داخلي على نحو يدفعني للنجاة ، على نحو يجعلني أحصل على شجاعة كافية للمواجهة ، تتمحور حياتي حولها وحول استخفافٍ بذاتي يجعلها تنفرُ مني بسرعة الضوء دون اي وداع مسبق حتى !
دخلتُ اخيرًا اقرب مطعم رأيته بقربي لأُخمد جوع معدتي آملاً ان اُسكت تمتمات ذهني ايضًا ، ولأن شرودي أَصرَّ على إستحواذي ارتطمتُ بالخطأ برجل فارع الطول حالَ دخولي ، وقبل ان أُفكر بتقديم اعتذار له تراجعت فورًا فَنرجسيته غير المتوقعة صدمتني ، يداه التي بدأت تمسح المعطف بمناديل ورقية بخشونة وكأن من لمسهُ كان مجرد برغوث او قطعة قذرة أُخرجت للتو الى العلن بعد ان كانت مُلقاه بِسلة مُهملات منسيّة ، رمقته بنظرة تشير الى عدم ارتياحي له وعدم ندمي ايضًا على اصطدامي به ، رَدَّها بنظرةِ استخفاف على حالي الفقيرة ونفسي المرتجفة ذعرًا !
جلستُ اهمُ لتناول الطعام بكلتّا يداي وكنت حقًا مستمتعًا إلا ان لاحت نظرات القرف والإشارة اليّ من قِبله ليُضحك جميع الحاضرين على طريقة اكلي ، ” عُذرًا ” قلتُ لهم وخرجت مهرولاً الى المنزل عساي ارتاح من كل ما حصل معي اليوم إلا انني -بيني وبين نفسي- ما زلت افكر …
أَحقًا تزعجهم فكرة عدم استخدامي للسكين ؟ ألم يفكروا يومًا بأن اسلوبًا كهذا فُرض عليّ قصرًا ولستُ انا من اختاره ؟ ألم يحاولوا فهم ما مررت به ؟ وما رأيته من كمِ اعداءٍ سرقوا السكين من وطني وخنقوا جميع من يسكنه بها؟
بالتأكيد لم تلوح بخيال افكارهم قصصًا كهذه ولهذا السبب بالتحديد لم أُعبر أمامهم عن اي شيء فلا جدوى حقًا من كلامي وإن تحرر !
غططتُ في النوم وفي أُذناي صوت شهيد لا تتوقف امه عن الشكوى وبداخلي انا الآخر كسر لا اعتقد انه قد يُجبر يومًا !
مضى يومين على لقاءي الأخير بها ، اشتاقُها منذ اللحظة الاولى التي غادرنا بها بعضنا ، الشيء الوحيد الذي امقته بها هو غيابها وذلك اللاشيء من الأشياء الذي تكون بيننا والذي بدورهِ كان عصيًا على التفسير !
قررت بالنهاية ان أَصحبَ احاسيسي معي وبضعُ ورود لأذهب متلهفًا بكل ما فيّ لها ، طرقت خشب بابها لكنها لم تُجب وفي طريق عودتي اشتهيت لو اني لم اعد ، لو زارني شبح الموت خلسة وأسعفني من رؤيتها مع ذلك المتعجرف نفسه الذي صادفته مُسبقًا ، اقتَرَبتْ منه ولامسَ هو خصلات شعرها المنسدل ، لم استطع سماع ما قيل وما سبب الضحكة التي ارتسمت فجاة على وجهيهما …
لحظتني بعد وقت ليس بالقصير أمضيته متجسسًا على حافة الشارع خلف شجرة وأبعدت جسدها الملتصق بجسده خجلاً وأخذت الي تتجهُ ، لم افكر حقًا برد او بقول اوبخها به …
أوليسَ من حقها الشرعي أن تعاشر رجلاً ثري يُذهبُ هم الفقر عنها ويجلب لها الوئام والهناء؟!
فقيرٌ مكتئبٌ مثلي ما الذي سيمنحها إياه ؟ مسكينٌ لم يحصل يومًا على حقهِ بالحرية ولم يملك حتى هوية ثابتة بأرضها !
كانت بلاده كمعلمٍ ثائر وكان هو الطالب المشاغب الذي طُرِد من بقاعِ المدرسة زورًا وبالإجبار دون ان يُخيَّر !
حقيقةً جلّ ما كنتُ اعرفه بأن العقاب -مهما طال-فإنه حتمًا سينتهي لكن حتى نظريتي السخيفة تلك كانت خاطئة ، لم ينتهِ العقاب بل استمر طيلة سنين حياتي التي عشتها وسيستمر حتى الممات . ايقنت هذا نعم ! بعد العديد من المحاولات البائسة في محاولة إقناع نفسي بالتفاؤل والرجوع الى المعلم مرة اخرى طالبًا منه المغفرة ..!
ابتعدتُ عن المكان ولم تُكلف نفسها جهد اللحاق بي وعادت مرة اخرى الى عشيقها لكي تحقق لي اعظم مخاوفي .
حَزِمت الفرحة امتعتها وسارت بعيدًا عن طريقي ورَحَبَ بي الحُزن مشرعًا ابوابه ولإني لم اجد أنيسًا غيره امامي دخلت عالمه خاضعًا له بكل ما في من بؤس !
مضت أسابيع همدَ فيها صوتي ، أَقحَلَ الحزن فيها جسدي ورماني بقسوة الى قوقعتي الاولى ، هناك حيث كنت انتمي .
تناولت ريشتي ورحتُ الى الورقِ أشكو بثي آملاً ان أَخُطَ وجه ما مختلف لكنّي كعادتي لم ارسم الا هي !
ادركتُ حينها بأن قَهري سيصحبني الى إكليل شوكٍ اهداهُ لي قدري وحاصرني به ليجعلني استوعب اخيرًا بأنني -ومهما حاولت التفريغ عمّا بداخلي – سأعجزُ حتمًا !
رميتُ الريشة الملعونة تلك وخرجت لأتعثر بصندوقٍ مغلفٍ مُلقى أمام الباب وعندما فتحته وجدتُ رسالة تقول ” إن المقعد الخلفي لحديقةِ الجد خالد ينتظرنا يوم الإثنين ، رجاءً لا تتطل انتظاره ” .
تحاول العودة الى ارضي بعد ان هاجرت بِقاعها بطريقةٍ كهذه ، محتالة هي ! وأظن اني ما زلتُ هاوٍ لإحتيالها حتى بعد إتمام تجربته عليّ !
حلّ يوم الاثنين اخيرًا بعد طول انتظار ( وطول ارتباك ايضًا ) وصلتُ المكان قبلها وكنت قد خططتُ لقذفِ توبيخٍ جارحٍ بوجهها علّها تشعر ولو بالقليل بما سببته لي من الم !
لم يكن الإنتظار كما قد ظننت انه سيكون ، على مقعد جدّي خالد قرصني الوجع وشدتني الذكريات ، هنا وقبل ان يُقام العزاء على جسده كان يجلس بحماسٍ متفاقمٍ ليسمعني اتحدث بسذاجة عاشق ابله عنها فقد كانت لقاءاتنا المتكررة جميعها بساحة منزله وكان عليها شاهدًا … ومن يدري ؟!
قد تكون خاتمة قصتنا بالمكان عينه وطيف روحه المتناثرة بالأرجاء ستشهد – بمرارة هذه المرة – على كل الذي حصل معنا ( وكل ما لم يحصل ايضًا )
قَدِمَت اليّ بعد ان أوقف شريط الذكريات دورانه ، مرتديةً ثوبًا أحمرًا ، مُسّقطةً العَبَرات من عينيها عَلّي اشفقُ على حالها ! وقبل ان انطقُ ما كنت اود استفراغه قالت وهي ترجفُ :
” اشتقتُ لك ، افتقد طريقتك التي كنت تستعين بها لتتغزل بتلك الشامة اعلى شفاهي ، اشتقتُ لقمحِ بلدتك وقهوةٍ تصبها يداكَ لأجلي ، اشتاق لكلامك المغمغمِ وافتقده ! “
صرختُ مصدومًا : ” لكنّكِ الان ملكٌ لهُ ولن اقدر على نفعكِ بشيء ” استدرتُ لمغادرة الساحة لكن يداها اصرّت على شدِ قميصي لألتفتَ فتقولُ لي :
” توقف رجاءً واستمع ، انت حقًا لا تُدرك مدى اندفاعيتي اتجاهك ولستَ على علم بما كنتُ أعيشه طيلة أيامي التي ولت ، اطلبُ منك المغفرة وأبوء لك بخطأي فقد خُيّل لي بأن أوراق نقودٍ خضراء ستتمكن من إنقاذي وسط حياة حقيرة كالتي عشناها سويةً ، سجنتُ نفسي مرغمة بمنزلٍ واسعٍ لكني لم اشعر فيه الا بالاختناق ، لم يقوى المال – بكل قوته- على شراء قلبي رغم اني عنكَ ما أخبرته لكنه لمحكَ تغتسل في مقلتاي وتُقرأُ في حروفي كما انه لم يتمكن من شمّ رائحة اخرى سوى رائحتك على جسدي … لم تدم الفترة طويلاً تحررتُ منه وأفلت ذراعي بعد طول عناء فقد أيقن بالنهاية بأني غيرك لن أُحب ! “
لم أُجب لأني لم أتوقع يومًا منها تصريحًا كهذا فهي بالذات لم تكن تبدي لي اهتمامًا كالذي كنت ارجوه ، كنت بحاجة لبضع دقائق لأتقبل صدمتي !
اقتربت انفاسها مني فجأة وسط فوضوية تفكيري المتشتت وقالت بصوت نعِس شهي ” أظن اني تجاوزت فيكَ حدود الحُب والمنطق ، أتَعي ما معنى هذا ؟! “
تكسو نظراتها الحيرة نفسها ، خائفة من فكرة ان الحب الكبير لا يغفر فمتى ما تمّ الغفران ماتت اللهفة وماتت الغيرة وتلاشت الأُلفة …!
نظرية كانت قد قَرَأَتها في كتاب وصدَّقتَها إلا انني بها ما زلتُ غير مقتنع فَحُبي انا (وإن كان بِخلاف جميع المتحابين ) فإنه يغفر حتى الرمق الأخير !
وإني اعترفُ بأن كل فَعَلتهُ كان سيعتبر إخلالاً بوعدنا بحالة عدم وجود هذا اللقاء ، اما الان فَعِناق مطول وهمسة دافئة كفيلة بإنهاء كل الجدل وإعادة الحياة الى قلبي وموطني على حد السواء ! .

كتابة ؛ ريما خطيب

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
Notify of
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

مقالات ذات صلة

0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x
متجر أدونيس
Logo

المزيد من النتائج

Generic selectors
المطابقات التامة فقط
البحث في العنوان
البحث في المحتوى
Post Type Selectors
منتجات
مناسبات
مقالات
مبادرات
Skip to content
عربة التسوق