إنه الليل، الوقت المناسب للغرق في المشاعر أكثر ولإسترجاع الماضي، لزيادة خفقان نبضات القلب وضجيجه!
مذكرتي العزيزة، كما عودّتُكِ دائمًا، اليوم سأروي لكِ عن اسرار طمرتها الرمال وحان الوقت لأن تُكشَف، علَّني وبهذه الطريقة أخفف من الثقل الملقى على كاهلي وعلى روحي التي خبأت الكثير من الحب لشخص تكلم معها بعقلانية وحاورها بطريقة مختلفة قليلاً، طريقة حبه لها ايضًا كانت مختلفه قليلاً عن الباقي، لكن هذا “القليل” كلفني قلبي!
حبنا يا عزيزتي كان أشبه بقصة تصعب قراءتها على أُمّيِ يعجز على تفكيك شيفرة السطور ولن يستطيع فهم لهجة العاشق ابدًا!
كان كل شيء بيننا مدهشًا، الأسطر التي خُطَّت ترتبت بشكل انيق، إحتوت على لغة مشتركة واحدة لم يفهمها سِوانا.
اما عن أحاديثنا فكانت ممزوجة بالعطر الفرنسي الثقيل، على رؤوس الكلمات تسلل كل واحدٍ فينا الى عُمق الآخر وخفاياه، إلى حكاياته المطمورة في تلك التربة الجافة، كجذورٍ شتوية جّفت الروح منها تنتظر قطرات الماء لتعود الى الحياة من جديد، كآثار منسية من عمرٍ انقضى يحلو التثقيب في كيانها شبه المهترئ.
ادمنَّا هذه اللحظات المليئة بالسلام بعد ايام جمّة حاربنا فيها صمتنا ووجعنا، كنا نشعرُ وكأننا فجأة اهدأنا صخب جوفنا وحصلنا على الأمان الذي رجيناه، كان الكلام عن حبنا كضمادات للجراح تُخْرِسُ كل ثقبٍ عميق.
نظراتنا وحدها كانت كفيلة بإنقلاب الحالة وبالتخفيف من حدة الألم الذي اعتصر قلوبنا من قبل، مدركين وبكل قوة بأننا -ومنذ نعومة أظافرنا – خُلِقنا لكي يُكمل أحدنا الآخر ، لنكون سندًا وعونًا، لنرتدي نحن ثوب اللين في عالم كثر شراؤه لأقمشة القسوة..
وفي حياة مليئة بالمرارة كُنّا نحن سبب الطعم الحُلو وسبب ازدهار كل بقعة ارض تركنا أثرنا فيها. إلا ان بداية ولهفة الحب ليست كنهايته، ولأنني خُلِقتُ لأشقى تحتم عليّ وضع الخطوط والاستعداد للفراق واعترف بأنني احتفظتُ بخيطٍ رفيع جدًا شدني اليه، خيط ادرك جيدًا أنه سينقطع مع أول هبّة رياح، مع أول عاصفة، عند تحول الجو الى رمادي فجأةً، لكن قلبي مع كل هذا لم يطاوعني على قطعة، واسيتُ نفسي وقلت تذكري بأن الله سيحدثُ امرًا ولن يترككم هكذا…
وددتُ لو بإستطاعتي قول كل ما بقلبي له دفعة واحدة، استفراغ كل الكلمات التي خنقتني وتزاحمت بجوفي والارتياح منها لكنّي لم افعل!
واللهُ ولّيُ الكلامِ الذي رغبت في قوله، لكنّي لم انبس ببنت شفة، اللهُ وليُ الكلامِ الذي يعود لقلبي على هيئةِ حممٍ بركانيةٍ ضخمة تَصهرُ كُلَ ما هو شامخ في الأعماق، والهيئةُ ثابتة، والوجه مبتسم بخلاف الروح المحطمة!
حاولت من قبل الإصلاح والترميم، أن أركب كل القطع المُلقية على هوامش الطريق لكنني لم افلح! مشيتُ معه في طريق أدرك نهايته لكني لم أقوى على البوح لانني اخشى خسارته، حتى لو آذاني بتصرفاته لن اهجر ارضه، فهي منزلي وانا كيان يكره التشرد!
مرّت ايام عدة اعتصرت الكآبه بها روحي،
كنت في أشد الحاجة لأن تحضنني كلماته، لأن أرتمي غارقةً بدموعي على كتفه، ليخبرني بأن كل أيامي السوداء ستمضي وانه معي في كل لحظة، أن ينتبه لنبرة الحزن التي تحتل صوتي حتى لو لم أتكلم، لكن ايًا من هذا حصل!
طرق بابي فجاة، بيوم عاصف وثقيل ألقى على مسامعي كلمات ليست كالكلمات؛
عُجِنَت رسالته ما قبل الأخيرة من دقيق القسوة غير المنخول وعندما تذوقتها تسرب طعم الألم الى داخلي، انتشر في زوايا روحي الرازحة وقلب حالتي اخيرًا إلى الاسوأ!
استمر فأسُ رحيله بالنكش في قلبي ليقطعهُ إلى شظايا صغيرة الحجم، جارحة وشائكة جدًا لكل بقعة تسقطُ عليها!
اكرهُ ان يقضيَّ رحيلهُ على بساتين قلبي بالكامل فيدمر ورودها وزهرها ..
لا اريد أن يعود لي فصل الخريف من جديد لُيسقط أوراق شجرة المثمرة ولينزع كل ما هو حي بجوفي!
لكن حصل ما كنتُ أخشاه؛ ابتلعني الحزن لقمة واحدة دون ان يُجهد نفسه في مضغ أو حتى المحاولة في غرز أسنانه للتقطيع المُفتِك!
انقطع حديثنا بعد الرسالة الاخيرة لانني لم ارضَ بأن اكون مجرد صديقة عابرة بعد كل ما حصل فإما الكمال او الزوال عندي وهكذا عُدنا اغراب مجددًا برغبة مُطلقة مني!
مضت فترة لكن لم تصلني فيها أي رسالة اشتياق منه ، حسنًا الأمر ليس غريبًا ولربما اعتدتُ على الغياب، لكنه مازال مؤلمًا بطريقة ما، الغريب أنني في كل مرة أنتظر!
اعلم جيدًا بأن الأشياء الجميلة تأتي في اللحظة التي نتوقعها أقل، لكنني لا أستطيع ترك الأمر للصُدف وعدم الاكتراث بشكل كُلي !
ليتني ادركُ فلسفته اللامبالية تلك وأكف عن انتظار عودته، ليت باستطاعتي أمرُ قلبي وإنهاء الموضوع بكل برود، يا ليت!
صدمة الفراق ما زالت متصلبه امامي، صدمة عدم تلقي الرسائل مرة اخرى، كل تلك الصدمات وأكثر.. تقبلتها جميعها بهدوء تام، ابتسمت أمام الملأ في مواقف كانت تستدرجني للبكاء ، لم يفهم احد منهم معنى أن يغلي المرء بداخله بقوة محاولاً عدم إخراج ما هو متدفق في الأسفل، مظهرًا نفسه بكامل الثبات والصمود!
شعرتُ بأن الهزائم تحاول أن تحيطني من كل صوب لكني ما وُلِدتُ لأُهزَم، لملمت ما تبقى من روحي ومضيت لأن القوة جزء لا يتجزأ مني!
لم أركض خلف ما اشتهيه رغم ان قلبي حاول العناد، روّضته حتى هدأ ولكنه في الواقع لم يهدأ، كان ذلك هدوءًا مؤقتًا!
بقيتُ بعدها عالقة في حيرتي، هل أنا حقًا ارغبُ بالرجوع لذلك الذي تُيِّمتُ بعشقه أم أنني سأستمر على هذا النحو، متقوقعة في عالم مكتظ بالقلق والضياع؟!
أسئلة كثيرة تقتحم عنان سمائي مذكرتي..
واهابُ أن ينفذ حبر قلمي قبل ان تنتهي هي.. سأكتفي بهذا القدر من الكتابة وانهض حالاً.. اعدكِ بأنني سأكتفي !
كتابة: #ريما_خطيب.