لعلّ عنوان المقال “في البدء كانت الموسيقى” يعيدك عزيزتي القارئة، أو ربما عزيزي القارئ، لعبارة “في البدء كان الكلمة” تلك العبارة التي استخدمها القديس يوحنا.
أجل، قصدت إعادتك لها، لأمهد الطريق لمناقشة الكلمة والموسيقى، خاصة أن الموسيقى هي جزء من الكلمة، الجزء الذي يعطيها الروح والمعنى والدلالة. بداية بلفظة الحرف، تشكيله، فالوزن الصرفي ثم لفظ الكلمة، موسيقى الكلمة تدل في نهاية المطاف على مدلولها. وقد أشار الى هذه العلاقة العديد من مختصي الموسيقى وعلماء اللغة العربية من أبرزهم “عثمان بن جني” في كتابه “الخصائص” في باب “تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني”، أي تجاور أو تقابل صفة الصوت (الحرف) مع صفة الحدث (المعنى).
لتوضيح هذه العلاقة، بأسلوب شيق وسهل، ومعاصر، تتطرق المقالة الى عدة مستويات من المقابلات، تتقابل الكلمة مع نظيرها باختلاف موسيقتها، تقابل الجملة مع نظيرتها باختلاف سياقها وموسيقتها، وتقابل النص الكامل مع نظيره باختلاف موسيقاه.
على مستوى الكلمة: ومن أكثر من الشعب الفلسطيني يدرك هذه العلاقة، هذا الشعب العظيم الذي يستخدم ثلاثة حروف “ط.ي.ب” وينتج منهم كلمة واحدة فقط، ذات الحروف والتشكيل، ولكن لديها العديد من المعاني، يُفهم المعنى بحسب موسيقى الكلمة. “طيب” أي لذيد، “طيب” أي منيح، و”طيب” أخرى تعني “على قيد الحياة” وأيضا “موافق” والعديد من المعاني الأخرى.
على مستوى الجملة: يدخل لحن الكلام (الأغنية) للتعبير عن إحساس القائل/المغني، المنشد، الخ.. ومن أبرز هذه العبارات، الجملة التي لاقت رواج في الآونة الأخيرة “انتَ ببلد وانا ببلد” عبارة مستخدمة في أكثر من أغنية، أذكر منها أغنيتين إحدى هذه الأغاني رائعة أبو غابي – “حبيني ولا تتخوثي”، حيث يقول “يامحلى حب اللاجئين تعبنا دبحنا الحنين انت ببلد وانا ببلد الله يجمعنا بخيمتي” اما الأغنية الثانية “انت ببلد وانا ببلد ونحب بعضنا للأبد”.
على مستوى النص الكامل: العديد من الفنانين يهوون غناء القصائد القديمة منها والجديدة، الصوفية منها والوطنية، العربية منها والمترجمة، العامية منها والمكتوبة بالفصحى.
وما أجمل اللحظات التي يتدخل بها الذكاء الاصطناعي، ويضع ذات القصيدة بأكثر أداء لها، في ذات “قائمة التشغيل” فتستمع إلى ذات الأغنية بأكثر من أداء، وتلاحظ الفرق الشاسع، ليس فقط بصوت الفنان إنّما بالمشاعر التي ينفلها لك، بالأفكار التي تراودك أثناء الاستماع، بالذكريات التي زارتك، مثال: قصيدة حديثة باللهجة المصرية العامية “مية مية كانت هتفرق في الوداع” للشاعر المصري “مصطفى إبراهيم”. غنى القصيدة الفنان أحمد مكي (مغني راب)، وأيضا فرقة مسار اجباري (فرقة روك). ومثال آخر: رائعة الحلاج “إذا هجرت”. القصيدة التي اختلف الفنانون بطريقة أدائها، وعشقناها كلما استمعنا إليها، أدتها الفنانة جاهدة وهبي، كذلك الشيخ أحمد حويلي، ومؤخرا المغنية نينا عبد الملك، كلّ بأسلوبه. بالإضافة لقائمة تطول من الفنانين الذين أدوها غناءـ أو إلقاء.
سوف لن اتطرق لمعاني واختلاف دلالات المقابلات، لعدة أسباب، ومنها لإثارة فضولكم بالاستماع وتطبيق هذه التجربة.
تختلف الأمثلة، والمستويات أعلاه ، لكنها تتشارك اختلاف الحالة التي يعيشها المستمع عند الاستماع لذات الكلمة، الجملة، النص الكامل، وتتشارك أيضا باختلاف المعنى المراد ايصاله. هنا تكمن قوة الموسيقى، وسحرها، ويظهر مدى تأثيرها على المستمع.
ومن جمال الموسيقى، أنّ المقامات والآلات الموسيقية أيضًا تؤثر على الحالة التي يعيشها المستمع، والمغني على حد سواء، ان إضافة آلة او إيقاف تشغيلها، أو تغيير المقام، يغير طابع المعزوفة، ورسالتها. ولعلّ أجمل ما يوضح الصورة، مقطع استمعت إليه عبر منصة اليوتيوب تحت عنوان “أنشودة المقامات/ المقامات الموسيقية/ كل المقامات الموسيقية في موال واحد “صنع بسحر” أداء كرم حسين “حيث يقول الموال:
“مقام الرست والعجم جميل، كذا السيكا به فن أصيل ، وبعدهما الصبا احساس حزن به يا صاحبي، دمعي يسيل، آه وبالنهاوند والكرد ستلقى لمعنى الود، والعطف دليل، وإن رمت الأذان، فذا حجاز يداوي النفس، آه للهم يزيل، ولحن بالبيات نشيد وجد، تدور به الرؤوس وتستميل”.